الأحد، 23 نوفمبر 2014

رحلة البحث عن مكانٍ مُلهم


لم تكن شرفة تطلّ على العالم من أعلى جبل, ولا كوخ على ساحل المحيط, لم يكن حتى نخلة ًفي مزرعة قريبة, ولا رازقيّة الدار ما يحرّضني على الكتابة, كان المكان أقل شاعرية بكثير .. !

أعرفُ أن أغلب نساء العالم يكرهنَ غسيل الصحون, ملمس الأيدي المنتفخة من الماء, الأظافر التي تكتسب هشاشةً غير محببة, بللُ الملابس ورائحة الخليط الغريب من السمكِ والزيت وبقايا كريمة الكعك وألوان مثيرة للتقزز .. هذا ما تكرهه النساء.. ويحرضني على الكتابة !

ملمس الرغوة بين أصابعي, الخطوط المتقطعة التي يرسمها الماء وهو ينزلق على صينية التيفال, تموّج الشمس على حوض الغسيل بين لحظةٍ وأخرى, رنين الملاعق وهي تسقط فوق صحن أو في قاع كأس , الأشياء الغريبة في بساطتها .. تجعلني أثرثر بلا انقطاع من خلال أصابعي المنشغلة بالغسيل!

كنتُ لوقتٍ طويل أروي قصصي عند هذا الحوض قبل كتابتها, ثمة قصص قصيرة كثيرة نسيتها هناك بعد أن نفضت يدي من البلل,ثم لا أبذل جهداً في البحث عن أفكاري الضائعة بينما أقفُ بمريلةٍ برتقالية غارقة ببقع الزيت والماء, واضعة السماعات في أذني دون أن أنتبه  في الحقيقة للأصوات الآتية من  خارج عالمي المثالي جداً.

كنت دائماً منشغلة بحكايةٍ ما أرويها لنفسي وأتخيل أشخاصها, الرجل الذي تلتمع حبيبات عرقٍ دقيقة فوق شفتيه حين يصعد سلالم العمارة, المرأة التي تسحب أطفالها الثلاثة في أروقة المشفى وهي تلعن والدهم بينما يتضاحكون حولها, وأشخاص هامشيون يمرون بينما أختلق الحدث ليضعوا شمساً في أعلى الصفحة, أو يدلقوا دمعةً على وجهِ امرأةٍ نائمة.

 ما يجعلني أتنفس, هي هذه الدوامة الرقيقة من الأفكار التي تنزلق بينما يدور الماء في الحوض دورته الأخيرة, مطلقاً خرخرته كي أغسل يدي وأترك فكرةً تنمو على الحافة إلى اليوم التالي .

الاثنين، 14 أكتوبر 2013

انتحار برقة ! - قصة قصيرة


اخترتُ الحبلَ لأشنقَ نفسي، لشعوري بأنها الطريقة الأجمل والأشد بدائيةً للانتحار
لم يكن تناول الحبوب خياراً، لأن الزبدَ الذي سيسيل من فمي كان سيشوه المشهد الذي تخيلته دائماً, بينما يرعبني أن أشرط رسغي بالسكين, سأصابُ بالهستيريا من منظر الدم ! لطالما كانت المشنقة طريقةً بطولية للموت، شيئاً يستحق المشاهدة، والتأمل والانتظار
أفكرُ في الرسالةِ التي سأتركها للعالم, لا أفكرُ في الكلام تحديداً بقدر ما أفكر في طريقةٍ فنية لايصال الرسالة! لا تبدو الكتابة على المرآة سوى مشهد رعب سخيف من فلمٍ سيء الإخراج, ماذا لو كانت عناوين كتبي هي الرسالة الغامضة التي عليهم ترتيبها؟ لكنّ الأمر معقد ويحتاج لوقتٍ لا أملكه, أقرر ألاّ أكتب شيئاً.. هذه هي رسالتي للعالم .
أُأَثثُ المكانَ كما ينبغي؛ النافذةُ المفتوحة, ستارةُ الدانتيل البيضاء المتموجة بنسيم الصباح, الكرسيُّ الخشبيّ المتمركز وسط الغرفةِ تماماً, والحبل الذي يهبطُ من السقفِ كملاذٍ أخيرٍ للخلاص. سأربطهُ حول عنقي بسهولة غريبة, لن ترتعشَ أصابعي المطلية بالأحمر الفاقع, ولن يلاحظ أحدٌ الزُرقة المُفزعة على شفاهي؛ لأنني لم أنسَ وضعَ أحمر الشفاه الكرزيّ الذي أحب !

أتأكدُ من شعري المتموج، من سقوطِ أشعة الشمس على عنقي، من البرودة التي يتركها الفراغ بين جسدي وفستاني حين أتدلى من السقف.  أغير مكان الكرسيّ مرةً أخرى، أبحث عن خاتمي الفضي ذو العصافير المتباعدة ، أشعر أن أصابعي تبدو أسمن مما هي عليه، أتركه عند المرآة ، أرى منظر المرآة والخاتم معاً جميلاً كديكور جانبي لمشهد موتي
عندما أتأرجحُ موتاً، تهطل ساقاي ببساطةٍ من الأعلى، ممدودتان، تشفّ العروق الزرقاء على ظاهرهما. فمي مفتوحٌ قليلاً فقط، كأنَّ نفَسي الأخير طويلٌ وأبدي! أحتار في الوضعية المناسبة لذراعي، هل أتركهما في وضعيةٍ عفوية أم أحاول إضافة القليل من الدراما لأدعي أنني تراجعت عن انتحاري في لحظتي الأخيرة
. لا تكف الستائر عن حركتها رغم أننا في منتصف أغسطس، الجو يتعاطف مع موتي أيضاً.

بعد ساعة ستصعد أختي لتبديل ملابسها بعد أن تترك صحن افطارها نصف مأكول، ستشعر بألم مفاجئ في أمعائها عندما أسمع طقطقة عنقي الذي يختنق برهافة تحت الحبل المشدود، ستفتح أختي الباب، وتجدني أحلّق.
 ستحاول الصراخ ، لكن صوتها لن يذهب أبعد من شفاهها، تنزل الدرج تتعثر .. تبكي ، تبحث عن أمي التي تحمل صحون الافطار لحوض الغسيل، لا تنكسر الصحون لأن أمي لا تفهم الاشارات المريبة التي تفتعلها أختي، أنا في الأعلى ما زلتُ أمثلُ دورَ الخروج من الجاذبية، مبتسمةً لبهاء موتي، ثم يتعكر المشهد، يأتي الكثير من الناس، يسحبني أحدهم فيقتلع جزءاً من جلد رقبتي المتورم، أسقطُ بطريقةٍ ما أو يتم إنزالي بفوضوية، أنزعج للأيادي الكثيرة التي تتحسس نبضي، أضيق ذرعاً بالدموع التي تسقطُ على وجهي فيتعكّر خطّ الكحل الذي قضيتُ وقتاً طويلاً في رسمه، شعري يتحول لكارثةٍ جمالية، أبدو وحشيةً في أياديهم، مُهملة وميتة جداً!
 أخافُ من وجهي من الأحمر الكرزي الذي خرج من استدارة شفاهي ليصبغ ذقني ووجنتي، المشهد في نهايته يبدو مريعاً، ومربكاً! لحظتها أنهض من مشهد موتي، أضع الحبل في درجي وأقرر ألا أنتحر
!

الثلاثاء، 25 يناير 2011

مخاوف جدية جداً

كنتُ أفكرُ في الخوف كثيمةٍ للكتابة , أفكرُ بهِ كثيراً لدرجة أنني خفتُ أن أكتب مرةً أخرى . أخاف الكثير من الأشياء في الحياة , أخاف أن أعانق أمي قبل سفري لأنني أشعر أن العناقات تعني رحيلاً مؤبداً , أخافُ من خشخشة الأشجار عند نافذتي في ليالي الشتاء الباردة , أخافُ صفير الريح , والأبواب المواربة .

أخافُ من الماء في حوض البانيو عندما يستدير في دوامةٍ سريعة ليخرج مع مياه الصرف , لأنني أشعرُ بأنّ أصابع قدمي تذوب مع الماء في حركته السريعة وأنني سأسيل مختفيةً دون أن يعرف مصيري أحد ! أخافُ من المرتفعات .. أن أكون أبعد عن الأرض بطابقٍ واحد , وهذا أشد مخاوفي فزعاً .. لأنني لا أستطيع اخفاء احمرار وجهي وتسارع أنفاسي ونبضاتي التي تتسارع راكضةً عبر أعضائي .. أيضاً أخافُ من الموت .. لكنني لا أخاف من المقابر .

كيف يعيش المرء دون أن يملك ما يخافه ؟ دون هذا الهاجس الذي يدفعه للايمان بخوارق الأشياء التي قد تتحقق إن فرّط في خوفه ؟

يخافُ الأطفال من أشياءٍ لا معقولة , من تقويم أسنان أخي الكبير , من صوت الـ عو , ومن أم الخضر والليف !

لماذا لم نعد نخاف من هذه الأشياء ؟ ولماذا اتسعت فكرتنا عن الخوف لتنزلق في أشياءٍ أغرب ؟

في الليالي التي كنتُ أنام فيها في بيت عمتي , كنتُ أخاف من النوم في العتمة , وكانت كبرانا تقول : لا يخاف المرءُ من شيء سوى أعماله السيئة . وكنتُ أفكر طيلة الليل في أعمالي السيئة التي تجعلني أخاف إلى هذا الحد من العتمة . ولم أكن طفلةً شقية تستطيع تعداد أفعالها المؤذية بسهولة , كنتُ أمضي نصف عمري في الصمت , ونصفه الآخر في القراءة . هل كان ما أقرؤه سيئاً إذن؟ وهل كانت هي بيضاء لهذا الحد الذي يجعلها لا تخاف؟ كيف يتحرر المرء من خوفه ببساطة كهذه؟ كم تمنيت أن أسألها الآن بعد أن صارت كبيرة بما يكفي : هل تخافين من شيء ؟

هل صرتِ مثلنا ؟

كيف أكون في لحظةٍ حقل أغانٍ و فراشات , وفي أخرى بحيرة داكنة لا تتلو فيها البجع رقصة ولا يسكبُ فيها الغيمُ سُكّرَه ؟

كيف يشكّل الخوف وجهي بيدين ناعمتين , كيف يقبض أنفاسي بليونة , كيف يجعلني أفكّر في موتي فزعاً .. وكيف لا يتركني أموت ببساطة .

أنا خائفة من امتحاناتي , وخائفة من تخرجي , وخائفة من مستقبلي , وخائفة من الحب , وخائفة من الوحدة , وخائفة من ألاّ أكون بحجم توقعات الآخرين عني .

مازلتُ أخافُ من العتمة أيضاً .

أناْ خائفة , من الأعوام .. تديرُ أفلاكها ضدي في مداراتٍ حزينة , أخافُ أن أنتظر .. ولا يجيء انتظاري بما أشتهي .

" ستكفّ عن الخوف إذا كففتَ عن الأمل " * وأظن أنني أملكُ أملاً كبيراً جداً كي تجتمع فيّ المخاوف هذي كلها !

*مثلٌ ورد في أحد الكتب التي قرأتها – وبعد |غيوم ميسّو .

السبت، 4 ديسمبر 2010

موسم الكتابة إلى لا أحد

تركتُ الكتابةَ منذ وقت , أو تركتني هيَ لأني لا أليقُ بالكلام الجميل .

في الصباح تعبرني الحروف , وأصير نهراً أتدفق بكل الكلمات التي لا يتخيلها أيّ شاعر , وأنا أغسل وجهي تركض الأغنيات في أذني كطفلة مشاغبة , تركلُ نعاسي بصحوٍ لذيذ .. لكنني دوماً لا أريد أن أفيقَ على الكتابة .

كلما أمعنتُ في تجفيف أصابعي كأوراق حناء تنتظر أن يعجنها أحد , تتحفز حواسي الأخرى بمبالغةٍ سينمائية مضحكة . أسمع كهرّة حفيف الأشجار على نافذتي , نقر العصافير الصغيرة , شاحنة القمامة الصباحية , ثرثرة العجائز , الشفاه التي ترتشف الشاي ببطء , مواء القطط الخمسة التي تتكوم عند باب منزلنا , ارتطام كرةٍ بالجدار , تقاطر الماء من شجرة اللوز المغسولة عصراً , أستطيع أن أسمع وأن أتخيل أحاديثاً وهمية .. لماذا لا أكفّ عن كتابة ذلك في مخيلتي لا أدري .

أرى بعينيّ كل التفاصيل الصغيرة التي لا ينتبه لها أحد , الطفلة التي تمضغ عباءة أمها , الصبية التي تتسارع أنفاسها لرسالة قصيرة في هاتفها المحمول , الدمعة العالقة بعيني طفل يشتهي الحلوى, زر قميصه المفقود , الحقيبة الوردية التي تخفيها صاحبتها تحت ردفها , أستطيع أن أرى الحب يتجلى ملاكاً سماوياً بين خطيبين شابين .. لكني لا أراني .

هل تتخيل حياتك قصة قصيرة ؟ هل يفعل الناس مثلي دوماً ؟ تسرقهم الأصوات من الصحو ليغرقوا في دائرة الحكايا ؟ صوت الخلخال الذي يرتج على ساقي اليُمنى , مشهد انحنائي على قدمي , تساقط خصلات شعري فجأة على وجهي . هل يتخيل الناس دوماً حياتهم كمشهد ما في حكايةٍ طويلة ؟ لا أحد ربما . هذا الهراء يأخذني لجنونٍ محتمل جداً.

بعض الكتابة تعيدني للعالم . هذا ما أجده في الكتابة .. أريد أن أحكي .. لكنني عندما أبدأ الحكاية .. صدقوني , لا أعرف كيف أخبركم بنهايتها الآن .